للسنة الثالثة ثانوي
بلاغة التشبيه آتية من ناحيتين: الأولى تأليف ألفاظه، والثانية ابتكار مشبه به بعيد عن الأذهان ، لا يجول إلا في نفس أديب وهب الله له استعداداً سليماً في تعرف وجوه الشبه الدقيقة بين الأشياء، وأودعه قدرةً على ربط المعاني وتوليد بعضها من بعض إلى مدى بعيدٍ لا يكاد ينتهي.
وسر بلاغة الاستعارة لا يتعدى هاتين الناحيتين، فبلاغتها من ناحية اللفظ أن تركيبها يدل على تناسي التشبيه، ويحملك عمداً على تخيل صورة جديدة تنسيك روعتها ما تضمنه الكلام من تشبيه خفى مستور.
انظر إلى قول البحتري في الفتح بن خاقان:
يسْمو بِكف عَلَى العافين حانِيَةٍ تَهْمِِِى وَطرْفٍ إِلى العلياءِ طمَّاحِ
ألست ترى كفه وقد تمثلت في صورة سحابة هتانة تصب وبلها على العافين السائلين، وأن هذه الصورة قد تملكت عليك مشاعرك فأَذْهلتْكَ عما اختبأَ في الكلام من تشبيه؟
وإذا سمعت قوله في رثاء المتوكل وقد قتل غيلة:
صريعٌ تقاضاه الَّياليِ حُشاشةً يجود بها والموتُ حُمْرُ أَظافِره
فهل تستطيع أن تبعد عن خيالك هذه الصورة المخيفة للموت، وهي صورة حيوان مففترس ضرجت أَظافره بدماء قتلاه؟
لهذا كانت الاستعارة أبلغ من التشبيه البليغ؛ لأنه وإن بنى على ادعاء أن المشبه والمشبه به سواءٌ لا يزال فيه التشبيه منوياً ملحوظاً بخلاف الاستعارة فالتشبيه فيها منسي مجحود؛ ومن ذلك يظهر لك أن الاستعارة المرشحة أبلغ من المطلقة، وأن المطلقة أبلغ من المجردة.
أما بلاغة الاستعارة من حيث الابتكار وروعة الخيال، وما تحدثه من أثر في نفوس سامعيها، فمجال فسيح للإبداع، وميدان لتسابق المجيدين من فرسان الكلام.
انظر إلى قوله عز شأنه في وصف النار:" تكاد تميز من الغيظ كلما ألقى فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير" ترتسم أمامك النار في صورة مخلوق ضخم بطاش مكفهر الوجه عابس يغلي صدره حقداً وغيظاً.
ثم انظر إلى قول أبي العتاهية في تهنئة المهدى بالخلافة:
أَتَتْهُ الخِلاَفةُ مُنْقادة إِليْهِ تُجَرِّر أَذْيالها
تجد أن الخلافة غادة هيفاءُ مُدَلَّلَةٌ ملولٌ فُتن الناس بها جميعاً، وهي تأبى عليهم وتصدُّ إعراضاً، ولكنها تأتى للمهدى طائعة في دلال وجمال تجرُّ أَذيالها تيهاً وخَفراً.
هذه الصورة لا شك رائعة أبدع أبو العتاهية تصويرها، وستبقى حُلوة في الأسماع حبيبةً إلى النفوس ما بقى الزمان.
ثم اسمع قول البارودي:
إِذا اسْتلَّ مِنَّا سيِّدٌ غَرْبَ سَيْفِهِ تفزَّعت الأَفلاكُ والْتفتَ الدَّهْر
وخبرني عما تحس وعما ينتابك من هول مما تسمع، وقل لنا كيف خطرت في نفسك صورة الأجرام السماوية العظيمة حية حساسة ترتعد فزعاً ووهلا، وكيف تصورت الدهر وهو يلتفت دهشاً وذهولاً؟
ثم اسمع قوله في منفاه وهو نهب اليأْس والأَمل:
أَسمعُ في نفسِي دبيب الْمُنى وأَلْمَحُ الشُّبْهَة في خاطِرِي
تجد أنه رسم لك صورة للأمل يتمشى في النفس تمشياً محسا يسمعه بأذنه. وأن الظنون والهواجس صار لها جسم يراه بعينه؛ هل رأيت إبداعاً فوق هذا في تصويره الشك والأمل يتجاذبان ؟ وهل رأيت ما كان للاستعارة البارعة من الأثر في هذا الإبداع؟
ثم انظر قول الشريف الرضي في الوداع:
نسْرقُ الدَّمْعَ في الجُيوبِ حَيَاءً وبِنَِا ما بِنَا مِنَ الأَشْواق
وهو يسرف الدمع حتى لا يوصم بالضعف والخور ساعة الوداع، وقد كان يستطيع أن يقول :"نستر الدمع في الجيوب حياء"؛ ولكنه يريد أن يسمو إلى نهاية المرتقى في سحر البيان، فإن الكلمة "نسرق" ترسم في خيالك صورة لشدة خوفه أن يظهر فيه أثر للضعف، ولمهارته وسرعته في إخفاء الدمع عن عيون الرقباء. ولولا ضيق نطاق هذا الكتاب لعرضنا عليك كثيراً من صور الاستعارة البديعة، ولكنا نعتقد أن ما قدمناه فيه كفاية وغناء.
وسر بلاغة الاستعارة لا يتعدى هاتين الناحيتين، فبلاغتها من ناحية اللفظ أن تركيبها يدل على تناسي التشبيه، ويحملك عمداً على تخيل صورة جديدة تنسيك روعتها ما تضمنه الكلام من تشبيه خفى مستور.
انظر إلى قول البحتري في الفتح بن خاقان:
يسْمو بِكف عَلَى العافين حانِيَةٍ تَهْمِِِى وَطرْفٍ إِلى العلياءِ طمَّاحِ
ألست ترى كفه وقد تمثلت في صورة سحابة هتانة تصب وبلها على العافين السائلين، وأن هذه الصورة قد تملكت عليك مشاعرك فأَذْهلتْكَ عما اختبأَ في الكلام من تشبيه؟
وإذا سمعت قوله في رثاء المتوكل وقد قتل غيلة:
صريعٌ تقاضاه الَّياليِ حُشاشةً يجود بها والموتُ حُمْرُ أَظافِره
فهل تستطيع أن تبعد عن خيالك هذه الصورة المخيفة للموت، وهي صورة حيوان مففترس ضرجت أَظافره بدماء قتلاه؟
لهذا كانت الاستعارة أبلغ من التشبيه البليغ؛ لأنه وإن بنى على ادعاء أن المشبه والمشبه به سواءٌ لا يزال فيه التشبيه منوياً ملحوظاً بخلاف الاستعارة فالتشبيه فيها منسي مجحود؛ ومن ذلك يظهر لك أن الاستعارة المرشحة أبلغ من المطلقة، وأن المطلقة أبلغ من المجردة.
أما بلاغة الاستعارة من حيث الابتكار وروعة الخيال، وما تحدثه من أثر في نفوس سامعيها، فمجال فسيح للإبداع، وميدان لتسابق المجيدين من فرسان الكلام.
انظر إلى قوله عز شأنه في وصف النار:" تكاد تميز من الغيظ كلما ألقى فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير" ترتسم أمامك النار في صورة مخلوق ضخم بطاش مكفهر الوجه عابس يغلي صدره حقداً وغيظاً.
ثم انظر إلى قول أبي العتاهية في تهنئة المهدى بالخلافة:
أَتَتْهُ الخِلاَفةُ مُنْقادة إِليْهِ تُجَرِّر أَذْيالها
تجد أن الخلافة غادة هيفاءُ مُدَلَّلَةٌ ملولٌ فُتن الناس بها جميعاً، وهي تأبى عليهم وتصدُّ إعراضاً، ولكنها تأتى للمهدى طائعة في دلال وجمال تجرُّ أَذيالها تيهاً وخَفراً.
هذه الصورة لا شك رائعة أبدع أبو العتاهية تصويرها، وستبقى حُلوة في الأسماع حبيبةً إلى النفوس ما بقى الزمان.
ثم اسمع قول البارودي:
إِذا اسْتلَّ مِنَّا سيِّدٌ غَرْبَ سَيْفِهِ تفزَّعت الأَفلاكُ والْتفتَ الدَّهْر
وخبرني عما تحس وعما ينتابك من هول مما تسمع، وقل لنا كيف خطرت في نفسك صورة الأجرام السماوية العظيمة حية حساسة ترتعد فزعاً ووهلا، وكيف تصورت الدهر وهو يلتفت دهشاً وذهولاً؟
ثم اسمع قوله في منفاه وهو نهب اليأْس والأَمل:
أَسمعُ في نفسِي دبيب الْمُنى وأَلْمَحُ الشُّبْهَة في خاطِرِي
تجد أنه رسم لك صورة للأمل يتمشى في النفس تمشياً محسا يسمعه بأذنه. وأن الظنون والهواجس صار لها جسم يراه بعينه؛ هل رأيت إبداعاً فوق هذا في تصويره الشك والأمل يتجاذبان ؟ وهل رأيت ما كان للاستعارة البارعة من الأثر في هذا الإبداع؟
ثم انظر قول الشريف الرضي في الوداع:
نسْرقُ الدَّمْعَ في الجُيوبِ حَيَاءً وبِنَِا ما بِنَا مِنَ الأَشْواق
وهو يسرف الدمع حتى لا يوصم بالضعف والخور ساعة الوداع، وقد كان يستطيع أن يقول :"نستر الدمع في الجيوب حياء"؛ ولكنه يريد أن يسمو إلى نهاية المرتقى في سحر البيان، فإن الكلمة "نسرق" ترسم في خيالك صورة لشدة خوفه أن يظهر فيه أثر للضعف، ولمهارته وسرعته في إخفاء الدمع عن عيون الرقباء. ولولا ضيق نطاق هذا الكتاب لعرضنا عليك كثيراً من صور الاستعارة البديعة، ولكنا نعتقد أن ما قدمناه فيه كفاية وغناء.